الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالجواب: أنه دلت عليه قرينتان من القرآن:الأولى قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بعد قوله: {يَرْمُونَ المحصنات} ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى. ومن قال: إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط.وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة هود، كما أشرنا له غير بعيد.القرينة الثانية: هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني في قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] الآية. وقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، يدل على إحصانهن أي عفتهن عن الزني، وأّن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن، ومثلنا لها كلها من القرآن في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات، كقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] أي عفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير:
وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي: فقوله رماني بأمر: يعني أنه رماه بالكلام القبيح، وفي شعر امرئ القيس أو غيره: واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات:الجهة الأولى: هي القرينتان القرآنيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله: {يَرْمُونَ المحصنات} هو الرمي بالزنى، أو ما يستلزمه كنفي النسب، كما أوضحناه قريبًا.الجهة الثانية: هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى، ولكن الله جل وعلا بيّن أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية، وأنه إن لم يأت بالشهداء، تلاعنا، وذلك في قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية.ومضمونها: أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه، والمعنى أنه لم يقدر على الإتيان ببينة تشهد له على الزنى الذي رماها به، فإنه يشهد شهادات يقول في كل واحدة منها: أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى، ثم يقول في الخامسة: عليَّ لعنة الله إن كنت كاذبًا عليها فيما رميتها به، ويرتفع عند الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات.وتشهد هي أربع شهادات بالله تقول في كل واحدة منها: أشهد بالله أنه لكاذب فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليَّ إن كان صادقًا فيما رماني به من الزنى، كما هو واضح من نص الآية.الجهة الثالثة: أن الله بيّن هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا، ولم يبين ما أعد له في الآخرة، ولكنه بيَّن في هذه السورة الكريمة ما أعدّ له في الدنيا والآخرة من عذاب الله، وذلك في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور: 23- 25] وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهن مؤمنات غافلات لأيضاح صفاتهن الكريمة.ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهن غافلات ثناء عليهن بأنهن سليمات الصدور نقيات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن، ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء، وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحًا لها لاذمًا، ومنه قول حسان رضي الله عنه: وقول الآخر: وقول الآخر: والظاهر أن قوله تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [النور: 23 24] محله فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا، فإن تابوا وأصحلوا، لم ينلهم شيء من ذلك الوعيد، ويدل له قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلى قولى {إِلاَّ الذين تَابُواْ} [النور: 5].وعمومات نصوص الكتاب والسنة دالة على أن من تاب إلى الله من ذنبه توبة نصوحًا تقبلها منه، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين إن آية {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} التي جعل الله فيها التوبة بقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} عامة، وأن آية {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} [النور: 23] الآية. خاصة بالذين رموا عائشة رضي الله عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق. والعلم عند الله تعالى.مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:المسألة الأولى: لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة، لأن ذلك هو صريح قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكور للذكور، أو الإناث للإناث، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية، من قذف الذكور للإناث، للجزم بنفي الفارق بين الجميع.وقد قدمنا أيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة الأنبياء في كلامنا الطويل على آية {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} [الأنبياء: 78] الآية.المسألة الثانية: اعلم أن المقرر في أصول المالكية، والشافعية الحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها، خلافًا لأبي حنيفة القائل: برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله: ولذ لو قال إنسان: هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين، وبني زهرة، وبني تميم إلا الفاسق منهم، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع، خلافًا لأبي حنيفة القائلك برجوعه للأخيرة، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية، إلا للجملة الأخيرة التي هي {وأولئك هُمُ الفاسقون إِلاَّ الذين تَابُواْ} فقد زال عنهم الفسق ولا يقول: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: إن شهادة القاذف لا تقبل أبدًا، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة.وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم: القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب. قاله ابن كثير.وقال جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة: إن الاستثناء في الآية راجع أيضًا لقوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وأن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته. أما قوله: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فلا يرجع له الاستثناء، لأن القاذف إذا تاب وأصلح، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة.فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} يرجع لها الاستثناء بلا خوف، وأن الجلمة الأولى التي هي {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لا يرجع له الاستثناء في قول عامة أهل العلم، ولم يخالف إلا من شذ، وأن الجملة الوسطى، وهي قوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة خلافًا لأبي حنيفة، وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آية الكتاب، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين، كابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء، الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل.وإنما قلنا: إن هذا هو الأظهر لأن الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [النساء: 59] الآية.وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرآن دالًا على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا، وهو الوقف. وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئًا مطردًا.ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92]، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط، لأن المطالبة بها تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعًا، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.ومن أمثلة ذلك آية النور هذه، لأن الاستثناء في قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} لا يرجع لقوله: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ} كما ذكرنا آنفًا.ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} [النساء: 89-90]، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار، ولو وصلوا إلى قول بينكم وبينهم ميثاق، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين أعني قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء: 89]، أي فخذوهم بالأسر، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم بينكم وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الآية نزلت فيه، وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر. وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع، ولا إلى الأخيرة، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة، كان ظاهرًا في رجوعه للجميع.وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، ولذلك اختصرناه هنا. والعلم عند الله تعالى.المسألة الثالثة: اعلم أن من قذف إنسانًا بغير الزنى أو نفي النسب كأن يقول له: يا فاسق، أو آكل الربى، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير، وذلك بما يراه الإمام رادعًا له، ولأمثاله من العقوبة من غير تحديد شيء في ذلك من جهة الشرع.وقال بعض أهل العلم: لا يبلغ بالتعزير قثدر الحد. وقال بعض العلماء: إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعًا مطلقًا. والعلم عند الله تعالى.المسألة الرابعة: اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حرًا أربعين، لأنه حد يشترط بالرق كحد الزنى. قال القرطبي: وروي عن ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة بن ذؤيب: يجلد ثمانين، وجلد أبو بكر بن محمد عبدًا قذف حرًا ثمانين، وبه قال الأوزاعي، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وقال الآخرون: فهمنا هناك أن حد الزنى لله، وأنه ربما كان أخف فيمن قلَّت نعم الله عليه. وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه.وأما حد القذف فهو حق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية، وربما قالوا لو كان يختلف لذكر كما في الزنى.قال ابن المنذر: والذي عليه علماء الأمصار القول وبه أقول. انتهى كلام القرطبي.
|